ملايين أيقونة مارادونا.. قيمة القميص أم ثمن الحكاية؟
قميص مارادونا
هل يستحق قميص ارتداه لاعب كرة قدم في مباراة واحدة أكثر من 9 ملايين دولار؟ ربما تحتاج للكثير من الوقت لإقناع سائليك بإجابة وافية إذا كان ارتباطهم بكرة القدم ليس وثيقًا، لكنه سيتحول إلى السؤال الأسهل على الإطلاق إذا كانت إجابتك موجهة إلى عشاق الساحرة المستديرة.
حطم القميص الذي ارتداه الأسطورة الأرجنتيني دييجو أرماندو مارادونا الرقم القياسي لأغلى قطعة بين المقتنيات الرياضية في مزاد أصبح حديث العالم أجمع نهاية شهر أبريل الماضي، حيث تجاوز القميص الأزرق قيمة المخطوطة الأسطورية المتعلقة بالبيان الأوليمبي الأول، والتي دونها البارون الفرنسي بيير دو كوبرتان عام 1882.
نعم كانت مباراة أسطورية أمام المنتخب الإنجليزي في ربع نهائي كأس العالم 1986، سجل خلالها مارادونا هدف القرن بعدما تلاعب بنصف نجوم المنتخب الإنجليزي، وسجل خلالها أكثر الأهداف إثارة للجدل في تاريخ اللعبة، عندما وضع الكرة بيده في مرمى بيتر شيلتون قبل دقائق من تسجيل هدف القرن.
لكن مهما بلغت قيمة الانتصار الذي مهد الطريق للقب المونديالي، ومهما حملت ذكريات الهدفين من علامات فارقة في تاريخ اللعبة، فإن القميص ليس إلا واجهة للحكاية التي يصعب تكرارها، والمسيرة التي حملت ما لم يحمله مشوار أي من نجوم كرة القدم على مدار أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان، حكاية "الفتى الذهبي".
في الثلاثين من أكتوبر 1960 وُلد أيقونة كرة القدم دييجو أرماندو مارادونا في مدينة لانوس بمحافظة بوينس آيرس الأرجنتينية الشهيرة، والتي انطلق منها الصغير الذي لُقب بـالبيبي دي أورو "الفتى الذهبي" لينشر سحرًا جديدًا من نوع خاص في عالم كرة القدم.
منح مارادونا الذي كان الإبن الأول بعد ثلاث فتيات الكثير من السعادة لأسرته الفقيرة التي هاجرت من حياة كوريانتس بحثًا عن حياة أفضل، عندما بدأ يداعب الكرة لتلمع موهبته بشكل ملفت، قبل أن يواصل مشواره ليتدرج في صفوف فريق أرجنتينوس جونيورز الذي خاض معه المواجهة الأولى في مسيرته الاحترافية قبل عشرة أيام من إتمام عامه السادس عشر.
دخل المراهق الصغير أرض الملعب في ذلك اليوم مرتديًا القميص رقم "16"، وخرج منتشيًا بعد المواجهة ليطلق تصريحه الأول في عالم كرة القدم حينما قال: "شعرت أنني لامست السماء بيدي في ذلك اليوم".
لم ينتظر مارادونا أكثر من 24 يومًا ليسجل الهدف الأول في مسيرته الكروية، عندما هز شباك فريق سان لورنزو، وواصل مسيرة إبداعاته ليصبح حديث الأرجنتين التي كانت تتأهب لاستضافة نهائيات كأس العالم بعد عامين، وقضى خمس سنوات بقميص أرجنتينوس جونيورز، سجل خلالهم 115 هدفًا في 167 مباراة، قبل أن تتهافت عليه الأندية الأرجنتينية الكبرى، وأبرزها القطبان بوكا جونيورز وريفر بليت، ورغم محاولات الأخير المستميتة للفوز بخدماته، وإغرائه بالراتب الأكبر في تاريخ النادي، إلا أن مارادونا عبر عن رغبته بوضوح في الانتقال إلى بوكا الذي حلم كثيرًا بارتداء قميصه.
في 20 فبراير 1981 حقق مارادونا حلمه، وانتقل في صفقة تاريخية إلى بوكا جونيورز مقابل 4 ملايين دولار، وبعد أقل من خمسين يومًا، لعب الموهوب الأرجنتيني أول "سوبر كلاسيكو" في مشواره، عندما شارك في مواجهة بوكا أمام ريفر بليت في العاشر من أبريل، وقاد فريقه الجديد لاكتساح غريمه بثلاثية نظيفة، بعدما تلاعب بمدافعي ريفر بليت المخضرمين ألبرتو تارانتيني وأبوالدو فيلول وسجل هدفًا تاريخيًا.
بدأت الدراما مبكرًا في مشوار مارادونا، حيث لم يتمتع بعلاقة طيبة مع سيلفيو مارزوليني مدربه في بوكا جونيورز، إلا ان أزماتهما لم تمنع تتويج فريقهما بالدوري المحلي، لكنها عجلت برحيل الفتى الذهبي عقب موسم وحيد، ليبدأ رحلته الأوروبية عبر بوابة برشلونة عام 1982، بعد صفقة تاريخية جديدة، حطمت الرقم القياسي لانتقالات كرة القدم، حيث دفع نادي برشلونة الإسباني 7.6 مليون دولار للتعاقد مع النجم الأرجنتيني.
شاء القدر أن يخوض مارادونا المونديال الأول في مشواره بالأراضي الإسبانية عام 1982، وأن يلعب الفتى الذهبي المواجهة الافتتاحية لحامل اللقب أمام نظيره البلجيكي على ملعب كامب نو، الذي احتشد به الجمهور الكتالوني لمشاهدة نجمه الجديد صاحب الصفقة القياسية، لكن مارادونا لم يظهر بالشكل المأمول، وخسر منتخب بلاده أمام نظيره البلجيكي بهدف نظيف، قبل أن يسجل مارادونا هدفين في فوز الأرجنتين على المجر بأربعة أهداف مقابل هدف، لكن المشوار الأرجنتيني انتهى في الدور الثاني، بعدما تذيل حامل اللقب مجموعته خلف إيطاليا والبرازيل، ولعب مارادونا أساسيًا في مواجهات الأرجنتين الخمسة، وودع المونديال ببطاقة حمراء قبل خمس دقائق من نهاية مواجهة البرازيل بسبب تدخل عنيف.
في موسمه الأول مع برشلونة ساهم مارادونا في تتويج الفريق الكتالوني بكأس ملك إسبانيا على حساب ريال مدريد، ثم كأس السوبر الإسباني على حساب أتلتيك بلباو، وفي السادس والعشرين من يونيو 1983 تمتع مارادونا بليلة استثنائية في العاصمة الإسبانية مدريد، بعدما وقع على مشهد إبداعي جديد في مواجهة كلاسيكو أمام ريال مدريد، عندما سجل هدفًا تلاعب خلاله بأوجاستين سانتياجو حارس الفريق الملكي وخوان خوسيه ظهيره الأيمن، ليجبر جماهير ستاد سانتياجو برنابيو على التصفيق له في مشهد استثنائي بتاريخ الكلاسيكو.
لكن رحلة مارادونا مع برشلونة لم تخل من المصاعب، حيث أصيب النجم الأرجنتيني بمرض فيروسي، قبل إصابة قاسية بكسر في الكاحل كادت أن تقضي على مسيرته الكروية، بسبب تدخل عنيف من أندوني جويكوتشيا لاعب فريق أتلتيك بلباو، وفي مواجهة جديدة بين الفريقين في نهائي كأس ملك إسبانيا 1983/1984، تدخل جويكوتشيا مجددًا بعنف على مارادونا، كما تلقى النجم الأرجنتيني استفزازات عديدة من جماهير بلباو التي وجهت له عبارات عنصرية، واكتملت صعوبات المواجهة باستفزاز جديد من ميجيل سولا لاعب أتلتيك بلباو في نهاية المباراة، لينفجر مارادونا غضبًا ويتحول ملعب المباراة إلى معركة بطلها الفتى الذهبي.
رغم أزماته وإصاباته، سجل مارادونا 38 هدفًا في 58 مباراة بقميص برشلونة، لكن علاقته توترت بمسؤولي النادي الكتالوني، وعلى رأسهم الرئيس جوسيب نونيز الذي لم يخف رغبته في خروج النجم الأرجنتيني من كامب نو، ليرحل مارادونا بالفعل في صفقة تاريخية جديدة، أعادته لصدارة الصفقات القياسية في تاريخ المستديرة، بعدما دفع نادي نابولي الإيطالي 10.5 مليون دولار للتعاقد معه.
في مشهد مهيب لم يناظره مثيل في تاريخ كرة القدم، تم تقديم مارادونا بقميص نابولي وسط 75 ألف متابع في ستاد سان باولو بالمدينة الإيطالية الجنوبية، التي تحول كل شىء فيها بمجرد وصول مارادونا.
"بالرغم من المشكلات التي تعاني منها المدينة، المنازل المدارس، المواصلات، الصرف الصحي والبطالة، لكن كل ذلك لا يهم، لدينا مارادونا!" هكذا كتبت إحدى الصحف المحلية في نابولي، بينما علق الصحفي ديفيد جولبات قائلًا: "المشجعون كانوا مقتنعين بأن (المخلّص) قد وصل".
لم يخيب مارادونا ظنون جماهير نابولي، وقدم المرحلة الأكثر ازدهارًا في مشواره الكروي، ومنح نابولي الفرصة لقطع الهيمنة الشمالية على البطولات المحلية الإيطالية، كما تزامنت إبداعاته بقميص ناديه مع المشاهد الأهم بقميص منتخب بلاده، عندما أبهر العالم في الأراضي المكسيكية عام 1986، وقاد الأرجنتين للقب المونديالي الثاني.
بعد تصدر المجموعة الأولى أمام إيطاليا، بلغاريا وكوريا الجنوبية، وتجاوز أوروجواي في الدور الثاني، توقف التاريخ عند الثاني والعشرين من يونيو 1986، موعد مواجهة الدور ربع النهائي بين الأرجنتين وإنجلترا، والتي جمعت المنتخبين وسط هواجس حرب الفوكلاند بين بلديهما، واكتملت بمشهدين أصبحا الأبرز في تاريخ كأس العالم، وكان بطلهما مارادونا.
بعد ست دقائق من عمر الشوط الثاني، انطلق مارادونا بالكرة بشجاعة معهودة وسط المدافعين الإنجليز، ومررها على حدود منطقة الجزاء إلى زميله خورخي فالدانو، وقبل أن يسيطر الأخير على الكرة ضربها المدافع ستيف هودج إلى أعلى، وارتقى الحارس المخضرم بيتر شيلتون للإمساك بها، وفي الوقت ذاته قفز القصير مارادونا عاليًا، وضرب الكرة بيده لتستقر في الشباك الإنجليزية.
الجميع انتظر أن يطلق الحكم التونسي علي بن ناصر صافرته محتسبًا خطأ لصالح المنتخب الإنجليزي، وأن يشهر البطاقة الصفراء في وجه الموهوب الأرجنتيني الذي تعمد لمس الكرة بيده، إلا أنه أطلق صافرته بغرض آخر، مشيرًا إلى منتصف الملعب، ومعلنًا عن الهدف اللاتيني الأول، وسط اعتراضات ممزوجة بذهول إنجليزي.
أربع دقائق فقط فصلت ذلك المشهد عن الهدف الذي اختاره جمهور كرة القدم كأجمل هدف في تاريخ كأس العالم، عندما تلاعب مارادونا بمدافعي المنتخب الإنجليزي وحارس مرماه، مسجلًا هدفًا فريدًا أكد تفوق منتخب بلاده رغم تقليص جاري لينيكر النتيجة في الدقيقة الحادية والثمانين.
واصل مارادونا تألقه، وقاد الأرجنتين للفوز بثنائية نظيفة من توقيعه في شباك بلجيكا بالدور نصف النهائي، قبل الفوز بثلاثة أهداف مقابل هدفين على المنتخب الألماني في المواجهة النهائية، ليرفع مارادونا الكأس الذهبية، وينصب نفسه كأحد أبرز نجوم كرة القدم في التاريخ.
عاد مارادونا منتشيًا إلى نابولي، ليواصل تألقه، ويقود الفريق الجنوبي إلى لقب الدوري المحلي الأول في تاريخه في موسم 1986/1987، ويشعل فرحة هيستيرية لم تعرفها مدينة نابولي طوال تاريخها، قبل الفوز بالكأس المحلي في الموسم ذاته، وواصل الأسطورة الأرجنتيني قيادته نابولي للفترة الكروية الأنجح في تاريخ النادي، بالوصول إلى منصات التتويج القارية، حيث عاد نابولي من مدينة شتوتجارت الألمانية بتعادل مثير بثلاثة أهداف لمثلهم مع فريقها في السابع عشر من مايو عام 1989، ليستفيد من فوزه ذهابًا في سان باولو بهدفين مقابل هدف، ويتوج بكأس الاتحاد الأوروبي.
في موسم 1989/1990 قاد مارادونا فريقه الإيطالي إلى لقب دوري جديد، قبل أحد المشاهد الأسطورية في تاريخ النادي، عندما اكتسح نابولي نظيره العملاق يوفنتوس بنتيجة 5-1 في مواجهة السوبر الإيطالي عام 1990، ليتوج مارادونا بلقبه الأخير مع نابولي، بعد شهرين فقط من مشهد بكائه الشهير، عقب خسارته فرصة استثنائية لتكريس أسطورته بقيادة الأرجنتين للقب المونديالي الثاني على التوالي، حيث انتقم الألمان لخسارتهم في نهائي 1986، وتُوجوا في روما بعد الفوز بهدف نظيف على الأرجنتين في المباراة النهائية.
مثّل ذلك العام إيذانًا بنهاية الحقبة الجميلة في مسيرة مارادونا، حيث تحولت أخبار الأيقونة الأرجنتينية من الإنجازات والأرقام القياسية إلى الفضائح والأزمات، فتورط في تعاطي الكوكايين وعلاقات صداقة مع أشخاص بارزين في عصابات المافيا الإيطالية، ونال عقوبة ضخمة بلغت 70 ألف دولار من ناديه لتغيبه عن مباريات وتدريبات عديدة، كما تأزم موقفه إعلاميًا بسبب مطالبات بأبوته لطفل غير شرعي.
انتهت علاقة مارادونا الأسطورية مع نابولي عام 1991، وحجب النادي القميص رقم 10 في الفريق تكريمًا لأيقونته الذي تلقى صدمة كبرى بإيقافه 15 شهرًا بسبب ثبوت تعاطيه الكوكايين، وبعد عودته عام 1992 لعب لموسم بقميص فريق إشبيلية الإسباني، وعاد منه إلى الأرجنتين عام 1993 ليلعب لموسم وحيد أيضًا بقميص نيويلز أولد بويز، قبل خروجه متحديًا عام 1994 باستعداده بشكل مثالي لمنافسات كأس العالم 1994 بالأراضي الأمريكية.
لكن مونديال الولايات المتحدة كان شاهدًا على صدمة جديدة لمارادونا، الذي سجل هدفًا مميزًا في مباراة منتخب بلاده الثانية بالبطولة أمام اليونان، احتفل بعده بشكل هيستيري أمام إحدى الكاميرات المحيطة بالملعب، لتلفت حالة عينيه الزائغتين أنظار مسؤولي الاتحاد الدولي لكرة القدم ومتابعي البطولة، وأثبت اختبار للمنشطات تورط مارادونا في تعاطي مادة محظورة، ورغم محاولاته نفي التهمة وتبرئة نفسه بالتأكيد على أن تلك المادة احتوى عليها مشروب استخدمه بموافقة الاتحاد الدولي "FIFA" بغرض إنقاص الوزن، إلا أن FIFA نفى تلك الادعاءات ليتلقى النجم الأرجنتيني إيقافًا جديدًا كان كفيلًا بإنهاء مسيرته الكروية الدولية التي امتدت لسبعة عشر عامًا، سجل خلالهم 34 هدفًا في 91 مباراة.
اتجه مارادونا للتدريب عام 1994 برفقة كارلوس فرين زميله السابق في أرجنتينوس جونيورز، وبدأ مشواره كمدرب بقيادة فريق مانديو دي كوريانتس، قبل تجربة جديدة مع ريسينج كلوب في العام التالي، لكنه قرر العودة لملاعب كرة القدم عام 1995 ليختتم مسيرته الكروية بقميص الفريق الذي عشقه منذ الصغر، حيث لعب حتى عام 1997 بصفوف بوكا جونيورز، قبل أن يعلن عن انتهاء مشواره مع الساحرة المستديرة بشكل نهائي.
ابتعد مارادونا عن ملاعب كرة القدم، واقتصر ظهوره على التواجد في المدرجات مشجعًا لمنتخب بلاده، قبل أن يعود مدربًا في تجربة مثيرة مع منتخب بلاده عام 2008، شهدت تأهل الأرجنتين بصعوبة إلى نهائيات كأس العالم 2010، قبل توديع البطولة ذاتها من الدور ربع النهائي على يد المنتخب الألماني، واتجه بعدها إلى تدريب الوصل الإماراتي في موسم 2011/2012، وانتقل منه إلى العمل كمستشار فني بنادي ديبورتيفو رييستا، وعاد مجددًا إلى الإمارات في تجربة قصيرة مع نادي الفجيرة بدوري الدرجة الثانية في موسم 2017/2018.
شهد العام الجاري تجربة مثيرة جديدة للأسطورة الأرجنتيني باعتلاء مقعد رئاسة نادي دينامو بريست البيلاروسي عقب نهائيات كأس العالم في الأراضي الروسية، إلا أنه صنع جدلًا جديدًا بمغادرته بشكل مفاجىء للعودة إلى مقعد المدير الفني مع نادي دورادوس الذي ينافس في دوري الدرجة المكسيكي، لتستمر مغامرات الأسطورة الذي لايزال صانعًا للجدل أينما حطت أقدامه.
للتواصل مع الكاتب عبر حسابه الرسمي على موقع فيسبوك.. اضغط هنا
فيديو قد يعجبك:
الإحصائيات
-
المباريات64
-
169
-
الهداف
-
صانع الأهداف