الخميس 30 أغسطس 2018
09:10 م
تتساقط القذائف من كل اتجاه حوله، لكن الطفل الصغير لا يتوقف عن الركض مع أسرته المذعورة أملاً في النجاة، يعبرون النيران في هلع، تصطك الفكوك وتنتقع الوجوه، لكن شيئاً ما كان يُدخل السكينة على قلب لوكا وكأنه يناجيه بصوت دافئ، يخبره بأن كل شيء سيسكن.. "ستبدأ رحلتك في هدوء إلى أعلى قمم أوروبا".. اطمئن يا لوكا!
30 أغسطس 2018
يوم لن ينساه لوكا مودريتش، ليس هو فقط، بل كل من عرفه في صباه وكل من أُخبر بقصته، كل من يقطن في زادار أو مناطق الحرب القديمة في كرواتيا، يوم أن توجت أوروبا طفلها النحيل الذي أصبح يافعاً أفضل لاعب في أوروبا.
9 سبتمبر 1985
تزغرد النساء فرحاً بالمولود الجديد، لكنها زغردة مختلطة بالولولة، لوكا سيُفرح أبويه لكنه سيثقل كاهلهما لأنه فتح عينيه في ظروف قاسية تتسيدها القذائف والنيران والدماء ودفقات الرصاص وحفلات الموت الجماعي.
33
ما بين يوم الولادة ويوم التتويج مر 33 عاماً على الجسد النحيل الذي ولد في ضعف، لكنه حوى بداخله بذرة لا يوهبها الله إلا لقليل من عباده، فالظروف الصعبة التي جعلت من لوكا وأسرته مطاردين لاجئين جراء الحرب وآلامها كانت تمنعه من إتقان عمله في طلب العلم، لا سبيل للنجاة في هذه الظروف الصعبة إلا بمنحة إلهية.
هذه المنحة تجلت في الكرة التي كان يحتضنها لوكا أثناء نومه، كانت كلما أضاءت الشمس عالمه المظلم لسويعات انطلق بها، يركلها ويداعبها وينظر إليها في عشق ويتفوق بها على أقرانه مستعرضاً الموهبة التي اختاره الله لمنحها له.
ووقت أن كان الأطفال يزجون وقتهم بالثرثرة، كان لوكا يكتفي بالنظر لكرته دون ثالثٍ معهما، يُكلمها بقلبه، وتعدِه في صمت دون أن يسمعهما أحداً، أسرته المسكينة كانت تضطر للتقتير في العيش والطعام كي تستمر على قيد الحياة بكامل أفرادها، وهو الأمر الذي كاد أن يعصف بأحلام لوكا في أن تكبر تلك البذرة بداخله وتتدلى بعناقيدها لتغلف ساقيه وتطمر جسده.
وزنه الخفيف ونحافته وهيئته التي تعكس وهناً كانت تنفر منه المدربين والكشافين في كرواتيا، حتى ابتسمت له الحياة واقتنع به نادي زادار ليلتحق بفرق الناشئين به، أصبح لوكا يجري بالكرة وخلفه الأطفال، بعد أن كان يجري مع أسرته وخلفه القذائف وطلقات الرصاص.
وإلى دينامو زغرب
حيث ابتسمت أكثر، وقع عقداً مع النادي الأكبر في بلاده، حصد معه الألقاب، ذاع صيته وأصبح هدفاً لكبار إنجلترا، حتى اقتنصه نادي توتنهام هوتسبير في 2008 ليثقل موهبته بالخبرات، وجسده بالعضلات التي بُنيت من التدريبات التي افتقدها في صغره والأنظمة الغذائية التي لم يكن قد سمع عنها في طفولته قط.
مودريتش بطلاً
في ريال مدريد لمع في معارك الوسط رغم نحافته التي لم تخفيها ملايين اليورو والإسترليني التي اكتسبها، توج باللقب تلو الأخر، حصد لقب دوري أبطال أوروبا 4 مرات مع العملاق الأبيض، وتجلت موهبته في كأس العالم 2018 في روسيا بقيادة كرواتيا للمباراة النهائية بعد عروض مبهرة ورائعة جلبت له لقب أفضل لاعب في المونديال، ويا له من إنجاز.
لكن هل توقف النجاح عند هذا الحد؟ بالطبع لا، أنصفه الاتحاد الأوروبي بالفوز بجائزة أفضل لاعب في أوروبا، والدولي بترشيحه لجائزة أفضل لاعب في العالم، ومن المؤكد أن الكرة الذهبية المقدمة من فرانس فوتبول ستضعه ضمن قوائهما النهائية.
وهكذا ظلت أحلام طفل الحرب الكرواتي تنمو وتتصاعد بشكل هيستيري حد التوحش، فبعد حكم أوروبا، ها هو الآن يتطلع لحكم العالم، وكأنه يصرخ في ماضيه المؤلم وهؤلاء الذين طاردوه وأسرته وشوهوا بكوريته منذ أن فتح عينيه، ويقول لهم أنا لوكا مودريتش، هل تتذكرون هذا الاسم؟