الإثنين 3 فبراير 2020
05:22 م
كتب - أحمد جمعة:
جلس المصريون مشدوهين أمام شاشات التلفزيون وداخل أروقة المقاهي، يتابعون المباراة الأولى لمنتخب بلادهم بكأس العالم 1990 أمام هولندا، الذي تفوق طوال اللقاء حتى أحرز مهاجمه (كيفت) هدف التقدم مع الدقائق الأولى للشوط الثاني.
وإذا بمعلق المباراة يصيح بكلمات حادة في الدقيقة 82: "مش أوفسايد حسام، مش أوفسايد حسام، ياله يا حسام، ومشدود !. الله أكبر، بنالتي، ضربة جزاء لمصر، الله أكبر.. عدالة السماء نزلت على استاد باليرمو"، قبل أن يطالب الجماهير التي انتفضت من موضعها مع سحب المدافع رونالد كومان قميص حسام حسن، بالدعاء لمجدي عبدالغني الذي وقف يسدد الركلة الحاسمة إلى مرمى الحارس فان بروكلين معلنًا تعادل الفراعنة مع أبطال أوروبا.
ظل المعلق الرياضي محمود بكر في موضعه مع انتهاء رسالته في الحياة، أبى أن يغادر "كبينته" إلا مضطرًا لـ"فراش المرض" بعد 72 عامًا قضاها بين رحاب الحياة، متجولًا بخفة ظله بين قطاعاتها، تطفو روحه فوق كل الصعاب، يداعب الأزمات فتصير بين كلماته "مجالًا لسخرية" من الأوضاع الرياضية والسياسية والمجتمعية على حد سواء، ظل هكذا حتى انتهت رحلته في 2016 وودع الحياة إلى غير رجعة.
كان "بكر" يكن لحياته العسكرية تقديرًا مفرطًا، يعتبرها جزءًا أصيلًا في تكوين شخصيته منذ أن تخرج من سلاح البحرية برتبة ملازم عام 1964، لكنه في الوقت ذاته لم يُهمل "متعته الكروية"، حيث طلب نقله إلى "الحربية" حتى يخرج من عباءة "فريق البحرية" الذي كان جبرًا أن يشارك به، ليدفعه ولعه بارتداء قميص النادي الأوليمبي السكندري ذائع الصيت في هذا الوقت، ويتوّج معه بدرع الدوري العام عام 1966 متفوقًا على الأهلي والزمالك.
ذهب برفقة المنتخب الوطني إلى أدغال أفريقيا لمواجهة المنتخب الأوغندي، تشتد حماسة اللقاء، يصول ويجول على حدود منطقة المرمى من فترة لأخرى. يحرز بمهارة "المدافعين" هدف المباراة الوحيد، آملًا أن يعود لبلاده مرفوعًا فوق الأعناق، قبل أن يسمع في الإذاعات الأجنبية عن الضربة الموجعة التي سددتها إسرائيل إلى مصر يوم 5 يونيو 1967.
ارتدي بكر "بذلته العسكرية" محددًا هدفه بالذود عن وطنه في "زمن النكسة"، يسُلم نفسه إلى وحدته الواقعة على طريق "بورسعيد - دمياط"، بالقرب من منطقة القناة التي عاشت ويلات الحرب. الوقت غير الوقت والعدو في المواجهة يترقب.
عاد الملازم أول محمود بكر إلى "الميري" وعمره 23 عامًا تاركًا فريقه في صدارة جدول ترتيب مسابقة الدوري، لم يأبه لـ"اعتزله المبكر" للكرة. حميِة "المنافسة العسكرية" تعوضه عن أيامه الأولى في الملاعب، مشاركًا في انتصار شعبه "الأعظم" في حرب أكتوبر، قبل أن يختتم خدمته في سلاح حرس الحدود عام 1979 وعلى كتفيه "دبورتين ونسر".
تفرغ بكر إلى الكرة بعد أن فقد رشاقة "اللاعبين"، متجهًا إلى العمل في قطاع الناشئين بالإسكندرية، على أمل أن يزرع هوايته التي فقدها في "نبتة" كروية جديدة، وما لبث أن تولى رئاسة النادي الأوليمبي، ثم عضوية اتحاد الكرة المصري. لكن وجوده في الدولاب الإداري الرياضي لم يستمر طويلا، ليتجه صوب "الإذاعة الصوتية للمباريات".
واضعًا سماعة الأذن حول رأسه، ينطلق المعلق الرياضي فيما أوتي من كلمات لوصف أحداث المباراة لمتابعيه، يتوقف لحظات مداعبًا الجمهور بإحدي "قفشاته" بين ثنايا اللعب: "دا فاول فلاحي!"، حتى إذا ما أحرز أحدهم هدفًا تواتيه الفرصة للصياح بـ"قهقهته" المميزة.
للإسكندرية في "قلب بكر الموجوع" مكانة خاصة. يقتنص اللحظات الثمينة ليغدو مناشدًا مدير الأمن بإصلاح، أو محافظ القُطر بتعديل، أوالحي بالنظافة. يستغل الدقائق المهدرة في التذكير: "عندنا في منطقة سموحة، نفسي مدير المرور يطلع بعربيته، لو طلع من سموحة بعد ساعتين تلاتة يبقى له الكلام".
صار ملاذ الأهالي لبث رسائلهم الغاضبة. "الناس بتتكلم وصوتي بيوصل؛ بانتهز فرص المباريات وأقول مشاكلهم"، قالها خلال استضافته في برنامج "معكم مني الشاذلي"، رافضًا حالة "الانفصام" بين الرياضة والحياة.
يمتلك بكر قاموسًا خاصًا لـ"العشق الكروي"، يجدد مصطلحاته ويواكبها مع الدهر، لكنها تظل عالقة في عقول المشاهدين يتذكرونها فيما بينهم كلما استدعى الأمر: "اهاهاها، والليّ كان بيشرب سيجارة في البلكونة ولسه جاي أحب أقوله إن شِيكل المباراة إتغير خالص والأهلي أحرز هدف".
قد لا تمر مباراة دون أن يتذكر بكر زملائه ويتغني بمهاراتهم: "الحتة دي عايزة الضظوي ولا أمين رشدي. واحد يقولي مين أمين رشدي ده أقوله عذرك معاك، ده كان أيام الخمسينات والستينات. طب يقولي أنت من أهل الكهف ولا إيه، أقوله لو كانوا موجودين دلوقتي كانوا اتباعوا بالملايين".
في أيامه الأخيرة كان قلب بكر يتألم، ينبض على مهل، يأبي أن يفارقنا، يغضب لشائعات وفاته، يخرج معلولًا يُناجي ربه "يارب"، لا ينطق سواها، ويأمل من ورائها العافية، لكن القدر أصدر حكمه النهائي وانتقل بكر إلى حياة أخرى بعيداً عن عالمنا.