الإثنين 31 ديسمبر 2018
07:26 م
يطُل ماجد من شرفة منزله البسيط ممسكاً كوباً من الشاي الساخن في راحته اليمني، متكئاً بيسراه على سور حديدي غلفه الصدأ، يتلذذ برؤية أطفال شارعه يلعبون الكُرة بعد أن صنعوا لأنفسهم منطقة نفوذ صغيرة، حدودها بخطوط وهمية رسمت ملعبهم التخيلي.
تصحو بداخله حكايات الصبا، ينظر إلى بطنه الممتلئ قليلاً، يحرك مفاصل ساقيه كأنه يختبرهما، ترتسم على وجهه نصف ابتسامة رضا، يُخرج هاتفه من جيبه تاركاً كوب الشاي فوق السور غير آبهٍ باحتمالية سقوطه، يفتح تطبيق "واتساب" ويهم بكتابة رسالة في مجموعة تضم أصحاب الطفولة، وزملاء الملعب القدامى.
"ما رأيكم في حجز ساعة في ملعب خماسي؟"، تمر ساعة، ولا يأتيه رد، يضربه الإحباط فيتجاهل الفكرة، قبل أن تنهال عليه الردود من أصدقائه بالموافقة، تاركين له مهمة حجز ملعب يحاولون فيه استحضار موهبة أضناها الزمن.
مهمة حجز ملعب خماسي للهواة، هل تندرج تحت بند المهمات الصعبة؟ يلا كورة وجه السؤال إلى شباب أوكلت لهم هذه المهمة، وإلى أصحاب الملاعب في مناطق مختلفة في القاهرة.
إبراهيم سعد، أربعيني من منطقة مكاوي بالقاهرة، لم ينسَ عشقه لكرة القدم، ما زال يحتفظ بزملاء جمعتهم الكرة منذ أكثر من عشرين عاماً، لكنه يجد مُعاناة في ممارسة اللعبة التي لم يعرف غيرها، يقول إبراهيم: "لولا علاقتنا الجيدة بأصحاب الملعب، والتقدير المتبادل بيننا لما نجحنا في حجز ساعة أسبوعياً".
ويضيف شاكياً: "لكن كيف تكفي ساعة واحدة كل هذا العدد من الأصدقاء والزملاء الراغبين في ممارسة كرة القدم؟"، ثم ينتقل لنقطة أهم: "خاطبنا الحي لإنشاء ملعب جديد في المنطقة، وحصلنا على موافقة، لكن لم يتحول الأمر من جرة قلم على ورق رسمي إلى واقع".
صاحب الملعب الستيني "عم حسين" برر صعوبة تأجير الملعب لكل من يطلبه قائلاً: "هذا الملعب هو المتنفس الوحيد لست مناطق هي الزاوية الحمراء والوايلي والقصيرين وحدائق القبة والشرابية، الضغط كبير لذلك نفشل في تلبية كل طلبات الحجز".
بينما يقول محمد سيد الشاب العشريني عن مهمة اقتناص ساعة في أحد ملاعب منطقة شبرا: "كلما ذهبنا إلى ملعب لحجز ساعة نتلقى إجابة واحدة، وهي (جميع الساعات محجوزة)، في يوم الراحة من العمل نشتاق لكرة القدم ونتمنى ممارستها، لكننا لا ننجح إلا في حالات نادرة جداً".
أما مراكز الشباب وفقاً للشاب الثلاثيني محمد سعيد فهي دائماً مشغولة، موضحاً: "الحجز دائماً غير مُتاح، والملاعب دائماً مشغولة، يبدو أن ثمة أمراً مريباً في هذه القصة، لكنني لا أعرفه".
بعض المستثمرين الشباب لجأوا إلى حل الأزمة بتوفير ملاعب بجودة عالية بها كل التجهيزات المطلوبة، باستثناء الطبية، بغرض الاستثمار والربح إلى جانب تقديم حل لمحبي اللعبة الأكثر شعبية في مصر.
لكن الأزمة انتقلت من عدم توافر ملعب، إلى الثمن الباهظ بالنسبة للشباب، حيث وصل سعر الساعة في بعض الملاعب إلى 200 جنيه، وأقل سعر لتلك الملاعب يتراوح بين 100 جنيه إلى 120 جنيهاً.
حتى أن المدارس الخاصة أغلبها وفر ملاعب للحجز لشباب المناطق المجاورة بعد انتهاء اليوم الدراسي، لكن أسعارها المرتفعة التي تتساوى مع الملاعب الخاصة تظل عائقاً.
على سبيل المثال، المدرسة القومية في المنيل صنعت ملعبًا من العُشب الصناعي مع تجهيزات جيدة من الإضاءة الليلية، وحولت ساحتها إلى ملعب خماسي لمن يرغب في تأجيره مقابل 170 جنيهًا للساعة.
حسام البدري مدرب الأهلي الأسبق، ورئيس نادي بيراميدز، عقب في تصريحات تليفزيونية على قناة النهار على الأزمة قائلاً: "من أين يأتي الشباب بهذه الأموال؟ يجب أن يكون هذا هو دور الدولة".
هل الدولة هي الحل؟ محمد فوزي المتحدث الرسمي لوزارة الشباب والرياضة أكد أن الدولة قطعت شوطاً كبيراً لحل هذه الأزمة، ووفرت بالفعل مئات الملاعب، وما زال العمل جارياً على إنشاء المزيد، فضلاً عن تطوير ملاعب مراكز الشباب ورفع مستواها لأفضل من الذي تتمتع به الملاعب الخاصة وملاعب المدارس الخاصة.
يرد فوزي بالإحصائيات: "لدينا 4284 مركز شباب، منتشرة في كل أنحاء الجمهورية، 409 منها في المدن، و3875 في القرى والبلاد النائية في المحافظات".
ويضيف متحدث وزارة الرياضة: "وفرنا 310 ملاعب قانونية في مراكز الشباب، إضافة إلى 2900 ملعب خماسي ومتعدد (لكرة السلة والكرة الطائرة وكرة اليد)".
وعن الأسعار قال فوزي: "قيمة الساعة نهاراً 30 جنيهًا لملاعب الخماسي، و60 جنيهًا ليلاً وذلك بسبب تكلفة الإضاءة المرتفعة، وهذه لائحة تعمل بها كل مراكز الشباب دون تدخل في الأسعار".
الأزمة تتسع وتنتقل إلى أبعاد أخرى طارحةً أسئلة جديدة، هل تكفي هذه الملاعب؟ وكم عدد الجمهور المتوقع إقباله عليها؟ وإذا قلنا أن أعمار الراغبين في حجز الملاعب تتراوح بين 15 عاماً إلى 40 عاماً، ربما نجد إجابات أدق.
وفقاً للتعداد الإلكتروني الرسمي للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن 41.3% من سكان مصر تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 39 سنة، إذا فإن 4284 ملعباً من وزارة الرياضة ليست كافية على الإطلاق.
وزارة الرياضة كان لديها رد، حيث أضاف فوزي:"الملعب القانوني يكلف الدولة أربعة ملايين جنيه، بينما يكلف إنشاء ملعب خماسي 600 ألف جنيه، وهنا يكمن الرد في قلة الملاعب مقارنة بأعداد الشباب".
ويختتم متحدث الوزارة المسؤولة عن الشباب والرياضة قائلًا: "لدينا دائماً خطط لتطوير الملاعب وإنشاء المزيد، حالياً نعمل على تطوير 185 مركز شباب وإنشاء ملاعب خماسية بها، وسيتم الانتهاء منها بالكامل في مارس 2019"، طالع صور ملاعب وزارة الشباب والرياضة.
وهكذا أمست الأرض الخضراء التي سميت بالأرض الخصبة "كميت" عند الأجداد منذ آلاف السنين، وقادتهم إلى تخيل الجنة في صورة حقول ومروج خضراء "حقول الأيارو"، بلا عُشب أخضر كافٍ ليمارس أبناؤها عليه الرياضة، سيطر الجدب على الساحات، وفي زحام المباني والبشر، أصبحت الرياضة شيئًا ترفيهيًا صعب المنال، أو عبئًا ماديًا يكاد لا يحتمل.
وبعد مُحاولات واتصالات عِدة، انتزع ماجد هاتفه من جيبه في ضجر، ليترك رسالة لأصدقائه، أخبرهم فيها بأنه لم يجد ملعباً، ثم حل صمت بعد قراءة رسالته، ليقتحمه مقترح عليهم فكرة جديدة، هي قضاء وقتهم بالثرثرة والتدخين مساء الجمعة على مقهاهم المُفضل، خاتماً رسالته: "بشرط أن ننجح في الحجز هذه المرة".